### **«رأس المال ونقاده»: قراءة جديدة لتاريخ الرأسمالية من منظور صراعاتها الداخلية**
في زمن تتصاعد فيه حدة الأسئلة الوجودية حول
مستقبل النظام الاقتصادي العالمي، وتتلاقى فيه تحديات الذكاء الاصطناعي، وأزمة
المناخ، واتساع فجوة اللامساواة، والحروب التجارية.
![]() |
### **«رأس المال ونقاده»: قراءة جديدة لتاريخ الرأسمالية من منظور صراعاتها الداخلية** |
- مع صعود موجات شعبوية رافضة للعولمة، يأتي كتاب «رأس المال ونقاده: تاريخ من الثورة
- الصناعية إلى الذكاء الاصطناعي» للكاتب الاقتصادي المرموق في أسبوعية «ذا نيويوركر»، جون
- كاسيدي، ليقدم عملاً فكرياً شاملاً وجريئاً. لا يكتفي الكتاب بسرد تاريخ الرأسمالية التقليدي، بل
- يقلب المنظور رأساً على عقب، ليحكي القصة بلسان أشد خصومها ومنتقديها، في محاولة عميقة
- لإعادة فهم هذا النظام
من خلال تناقضاته وصراعاته الكامنة.
#### **فرضية مركزية الرأسمالية كنظام يعيش في أزمة دائمة**
على امتداد 600 صفحة، يطرح كاسيدي فكرة محورية تتحدى السرديات السائدة التي تحتفي بكفاءة الأسواق وعبقرية الابتكار الرأسمالي. يرى كاسيدي أن الرأسمالية، على الرغم من قدرتها المذهلة على التجدد والتكيف والبقاء، تعيش في جوهرها حالة دائمة من الأزمات؛ فهي إما تتعافى من أزمة سابقة، أو تتجه حتماً نحو أزمة تالية.
- هذا المنظور النقدي هو الخيط الناظم للكتاب، حيث يكشف أن المآخذ الأساسية على النظام الرأسمالي
- ظلت ثابتة بشكل لافت عبر القرون. فالانتقادات التي تصفه بأنه «عديم الروح، واستغلالي، وغير
- متكافئ، وغير مستقر، ومدمّر للبيئة والمجتمعات»، ليست وليدة اللحظة، بل هي صدى لأصوات
- علت منذ بدايات الثورة
الصناعية، بغض النظر عن السياق الجغرافي أو الزمني.
#### **بانوراما تاريخية للنقد من مصانع النسيج إلى وادي السيليكون**
يبدأ كاسيدي رحلته الاستكشافية من أيام شركة
الهند الشرقية وبدايات الثورة الصناعية في بريطانيا، ويمر عبر محطات تاريخية كبرى،
وصولاً إلى الثورة الرقمية وتحديات الذكاء الاصطناعي في عصرنا. لكنه يخوض غمار هذا
التاريخ بعيون نقاد النظام، مما يمنح السردية حيوية وعمقاً فكرياً نادراً.
- يستعرض الكتاب طيفاً واسعاً ومتنوعاً من الحركات والشخصيات الناقدة. تبدأ القصة مع النساجين
- الإنجليز (اللوديين) الذين حطموا الآلات في أوائل القرن التاسع عشر، ليس رفضاً للتكنولوجيا بحد
- ذاتها، بل احتجاجاً على ما أحدثته من بطالة وتفكك اجتماعي. ثم ينتقل إلى الاشتراكيين الطوباويين
- والتعاونيين مثل وليام طومسون، الذين حلموا بمجتمعات قائمة على التشارك لا
المنافسة.
من نقاط القوة البارزة في عمل كاسيدي هو قدرته
على إخراج النقاش من دائرة الشخصيات المعتادة في الفكر الاقتصادي. فإلى جانب
العمالقة مثل كارل ماركس، الذي حلل تناقضات رأس المال، وجون ماينارد كينز، الذي
سعى لإنقاذ النظام من نفسه، يسلط كاسيدي الضوء على مفكرين ربما كانوا أقل شهرة،
لكن أفكارهم لا تقل أهمية:
* **توماس
كارلايل:** المفكر الاسكتلندي المحافظ الذي انتقد في القرن التاسع عشر "العصر
الميكانيكي عديم الروح" و"عبادة المال"، متنبئاً بالآثار الأخلاقية
المدمرة للسوق على الروابط الإنسانية.
* **فلورا
تريستان:** المناضلة الفرنسية التي سبقت ماركس في الدعوة إلى اتحاد عمالي عالمي،
وربطت بشكل مبكر بين تحرر الطبقة العاملة وتحرر المرأة.
* **كارل
بولاني:** الذي رأى أن "السوق ذاتية التنظيم" ليست ظاهرة طبيعية بل "يوتوبيا
مصطنعة" فرضتها الدولة، وأن المجتمع سيعود دائماً للمطالبة بالحماية من
قسوتها.
* **ج.
سي. كومارابا:** الداعية الهندي للاقتصاد الغاندي، الذي نادى باللامركزية
والاكتفاء الذاتي للمجتمعات المحلية كبديل عن الصناعات الكبرى المدمرة.
* **إريك
ويليامز:** مؤرخ ترينيداد وتوباغو الذي كشف في أطروحته الشهيرة "الرأسمالية
والعبودية" عن الارتباط العضوي بين تراكم رأس المال وصعود تجارة الرقيق.
* **سمير
أمين:** الاقتصادي المصري-الفرنسي الذي قدم تحليلات عميقة حول آليات التبعية
والتنمية غير المتكافئة بين الشمال والجنوب العالمي في ظل العولمة.
هذا التنوع الهائل في الأصوات، من اليسار الثوري إلى المحافظين الثقافيين، ومن النسويات إلى دعاة حماية البيئة، يثبت أن نقد الرأسمالية لم يكن يوماً حكراً على تيار فكري واحد، بل هو ظاهرة عالمية متعددة الأوجه، تنبع من تجارب وخلفيات مختلفة.
#### **مفارقة البقاء كيف تتكيف الرأسمالية وتنتصر؟**
لا يتجاهل كاسيدي السؤال الحتمي: إذا كانت
الرأسمالية معيبة إلى هذا الحد، فلماذا استمرت وهيمنت؟ يكمن جزء من الإجابة في
قدرتها الاستثنائية على التكيف وإعادة اختراع نفسها. يوضح الكتاب كيف أن النظام،
عندما يُترك بلا قيود، يميل حتماً إلى الفشل والانهيار. ولكن في كل مرة واجه فيها
أزمة وجودية، تدخلت الدولة لإنقاذه، في تناقض صارخ مع الأرثوذكسية الليبرالية التي
تنادي بالحد الأدنى من التدخل.
- فالكساد الكبير في الثلاثينات لم يؤدِّ إلى ثورة اشتراكية في الغرب، بل أنتج "دولة الرفاه الكينزية" التي
- أدارت الطلب وحمت المواطنين بشبكات الأمان الاجتماعي. وأزمة 2008 المالية، التي كان يُفترض
- أن تكون نهاية حقبة النيوليبرالية، تم احتواؤها بتدخلات حكومية ضخمة لإنقاذ البنوك. هذا التدخل
- المستمر يجعل الرأسمالية المعاصرة نظاماً "مُداراً" أكثر من كونه
"حراً"، وهو ما يضمن بقاءه.
كما يناقش الكتاب فشل النماذج البديلة في الظهور
على نطاق واسع، ويعزو ذلك إلى تفوق الرأسمالية التنظيمي والتقني، وميزات الإنتاج
الواسع النطاق، وقوة جاذبية الاستهلاك، وقدرتها على تقديم سردية مقنعة عن الحرية
الفردية والازدهار.
#### **قوة الأفكار الهامشية ومستقبل غير مكتوب**
قد يبدو تأثير هؤلاء النقاد "هامشياً" إذا قيس بالتغيير المباشر في السياسات، فالتغييرات الكبرى غالباً ما تقودها الحركات السياسية والظروف المادية. ومع ذلك، يجادل كاسيدي بأن "الأفكار مهمة". يستشهد بمقولة شهيرة للاقتصادي النيوليبرالي ميلتون فريدمان، مفادها أن دور المثقفين هو "الحفاظ على الأفكار حية حتى تنتج الأزمات الفرصة لتطبيقها".
- فالأفكار التي بدت راديكالية وهامشية في وقتها، مثل أفكار كينز أو فريدمان نفسه، تحولت إلى
- سياسات مهيمنة عندما تغيرت الظروف. من هذا المنطلق، فإن كتاب «رأس المال ونقاده» ليس مجرد
- تأريخ فكري، بل هو دعوة للحفاظ على خزان من الأفكار النقدية حياً، لأنه قد يكون ضرورياً لتشكيل
- المستقبل.
في رحلته، يتركنا كاسيدي مع أسئلة مفتوحة
حول طبيعة النموذج الاقتصادي القادم في ظل صعود الذكاء الاصطناعي. هل نتجه نحو "رأسمالية
تكنولوجية احتكارية" تدعمها الدولة بدخل أساسي شامل لإبقاء الجماهير في حالة
من الخدر الاستهلاكي؟ أم سنهيمن عليها "رأسمالية الدولة" على الطراز
الصيني؟ أم ستنتصر "القومية الاقتصادية اليمينية"؟ أم أن هناك بديلاً
يسارياً لم تتضح معالمه بعد؟
الختام
لا يقدم الكتاب إجابات حاسمة، بل يخلص إلى أن "الأسئلة الأساسية حول النظام لم يتم حلها بشكل دائم أبداً"، وأننا نعيش في "خضم لحظة تحول كبرى".
وتكمن قيمة هذا العمل الفكري الضخم في أنه يمنحنا الأدوات
التاريخية والنظرية لفهم عمق هذه اللحظة، ويذكرنا بأن تاريخ الرأسمالية كان دائماً
تاريخ صراع بين النظام ونقاده، وأن فصوله القادمة لم تُكتب بعد.